قلتُ لها :
الليلُ يمدُّ جناحيه على الطّريق كطائرٍ أسطوريٍّ عملاق ، والرّيحُ تتنفّسُ مثلَ جملٍ يُعاني سكرات الموت ، فتتطاير ذرّات التُراب ، وأوراق الشجر القديم على حواف الطّريق ، وهناك على الجانب الأيمن من الزُقاق عُلبُ عصيرٍ فارغة يصدرُ منها حفيفٌ مشوبٌ بصفير ، يبدو أنَّ الأطفال كانوا يلعبونَ هنا ، وكانوا يرسمون على الجدار المُحاذي للطّريق صورةً للقمرِ والنُّجومِ وحبّاتِ المطر ، وهي تتنزّلُ من السّماء خائفة .
أمشي وعُكّازي القديم يئنُّ من ثقلِ العُمرِ ، وعارِ الهزيمة ، وكأنهُ يسألُني بصوتٍ مخنوق عن القصور الخاوية ، والمساجد المُهدّمة ، والكنائس الخربة ، فأُجيب بصوتٍ مريض :
هذا زمنُ الأنبياءِ المُزيفين
وزمنُ السياسةِ القذرة
وزمنُ الحكّام المتآمرين
وزمنُ الشّياطين حينَ يرتدون الوجه الملائكي ..
أمشي وعكّازي يحملُني غاضباً مثلَ سماءٍ هائجة ، وكأنّهُ يُعاتبني بصوتٍ غاضب :
ماذا تفعلُ هنا وحدك في هذا الفراغ ؟
أخذتُ نفساً طويلاً طويلاً صاحبهُ سُعال همجي وقلتُ لهُ :
لأُبشِّرَ بزمنٍ ورديّ ، وأحلامٍ لأطفالٍ لمّا يولدون ، وأنتظرُ عودة الرّاحلين المُهاجرين الذين غابوا كما تغيبُ الشّمس في المرايا .
تماديتُ بالمشي أكثر ، والطّريقُ يتلوّى وينحني كأفعى إفريقيّة ، وهناك في وسط الطّريق بقايا من جثثٍ مُتعفّنة ورصاص ، ورسالةٌ قديمة أخذت لونها الأصفرَ العتيق من حرارة الوداع ، تهجّيتُ حروفها المُتداخلة كبيتِ العنكبوت :
حبيبتي اشتقتُ لعينيكِ
لليلِ الصيفِ والرّبيعِ النّدي
اشتقتُ لصوتكِ النّاعمِ يطرقُ أبوابَ الرّوحِ :
أُحبُّكَ
اشتقتُ لصمتي حينَ أكونُ معكِ
أسمعُكِ بالقلبِ حيناً
وبالرّوحِ أحياناً
سأعودُ يا حبيبتي أحملُ بينَ يدي ثوب الزّفافِ
وعطرَ الزّفافِ
وأزهاراً من كلِّ الألوان
وأُغنياتٍ بكلِّ أنواعِ الايقاع
سأعودُ مع فجرِ أوّل عيد
مثلَ موسيقى النّاي ..
حملتُ الرّسالةَ ومشيتُ
مع عُكّازي الأصيل
مثلَ حصانٍ عربيٍّ أُحيلَ على التقاعد
ورأيت وجوهاً تسكبُ السُّموم
وأيادٍ عمياء
وأقداماً خائنة
وعيوناً آثمة
وسمعتُ أصواتاً تخرجُ من بينِ الجماجمِ
تصرخُ بصوتٍ حزينٍ :
لقد سرقوا طفولتي وأحلامي
ودفاتري وعلبةَ ألواني
وحذفوا من ذاكرتي الشعّرية :
بلادُ العُربِ أوطاني
د.ع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق